كتاب أعجبني (3)
مجموعة (أرواح قابلة للاشتعال) للقاص البحريني: عبد العزيز الموسوي
بقلم: زينب.ع.م.البحراني
مازال ذهني غارقًا في مذاق قصّتي (شخير) وَ (لعقةُ الشّيطان) من تلك المجموعة، رُبّما لأنني مُنذ زمنٍ بعيد لم أرتطم بعملٍ أدبيّ عربيّ يلائم ذوق القرّاء المجانين أمثالي إلى هذا الحد!. حيث الكثير من اللا مُتوقّع من شخصيّات تمتلك كيانًا بعيدًا عن النّمطيّة، تعيش بين النّاس حياة مُعتادة في الظّاهر، بينما تمتلك بداخلها أكوانًا أكثر عُمقّا وتعقيدًا مما تُبديه هيئتها الظّاهرة لمدى رؤية المُحيطين بها من عامّة النّاس. وراء هدوئها الظّاهريّ يصطخب الكثير من القوّة والعجز والرّغبة والتّوق والحزن والحب والغثيان والتقزّز والقهر والمبادئ الرّاسخة والخاوية والمعتقدات الشبيهة بالأساطير وكلّ ما قد لا يُمكن توقّعه من مُجرّد إلقاء نظرة على اسمها وعُمرها وجنسها و ملامحها و ثيابها وحركاتها.. وربّما حتّى ما يُفصح عنه لسانها. ثمّة إحساس كثيفٌ مُضاعفٌ يُسبغ على أبعاد كلّ شخصيّة مزيدًا من الكثافة، ويُضيف إلى وجودها قيمة أرفع مهما كان مُسمّاها البشريّ الظّاهر لعموم العيان، فوراء المرأة المريضة، والطّفل العاجز، والمُغترب عن أرض الوطن، والرّجل المتوفّى وأقارب هذا الرّجُل، ومكفوف البصر، والزّوجة الحزينة، والملاك المُتّهم، والطّفل اليتيم، وسائق الحافلة، والرّجل المُتديّن، والأب المهجور، والجدّة المُباركة، والتّلميذة الصّغيرة، وعامل النّظافة، والشّاب الذي لا يعرف أبويه أسرارٌ تُحرّض ذهن القارئ على مزيد من التوغّل في ذوات تلك الشخصيّات المقروءة وتدفعه للتأمّل في السرّ الذي قد يكمن وراء كلّ شخصيّة حيّة تتقاسم الهواء معنا على أرض الواقع.
وشخصيّات المجموعة تلك تتخذ مكانها المؤثّر في أحداث كلّ قصّة لتقدّم لنا الحدث في حبكة مُتقنة، وأسلوب قصصيّ قادر على تقديم أفكار غير مألوفة باحتراف تقنيّ واضح، وصور تنمّ عن مُخيّلة خصبة، ولُغة أنيقة تُضيف إلى النّص مزيدًا من الجاذبيّة موازية بذلك جودة التقنيات التي كُتب بها النّص. ولا يسعنا أن نُغفل تلك الرّؤية الفلسفيّة القادرة على التعمّق فيما وراء ظاهر الحدث، والتي تجعل القارئ يتساءل عمّا وراء عجز الجسد؟ مثلما تفعل قصّة (ضيفة الله) ، وماذا بعد الموت في (عالم آخر) و (ضجّة قلبيّة)، ما الذي قد يصنعه المنفى بذواتنا في (حقائب وطن)، كيف يعيش رأسٌ طفولته دون بصر في (ابتسامة خضراء).. إلى متى ستستمرّ تلك الضجّة على امتداد يقظتنا ونومنا؟.. في قصّة (شخير)، من أين تُستفزّ الشّعلة الأولى في (أرواح قابلة للاشتعال).. ونواجه غُصّة الخُذلان المُضاعف في (مثنى و..)، ثمّ مشاعر ملاك مُتّهم في (خادم الدّود).. ما وراء عيني يتيم في قصّة (نُزهة)، وما لا يراه غيرُنا في (عيّنة) و (مؤهّلات) و (لعقة الشّيطان). ما يصفع توقّعاتنا في (تفاسير)، أوجاع الشّيخوخة الخفيّة وبركاتها الحنونة في (جباه باكية) و(تحت أقدام جدّتي). الواقع الذي يجلب لنا ذكرى أسطورة في (أمّ الدّيفان).. وأخيرًا تُجبرك قصّة (عقاب البقرة) على مُراجعة حقيقة حُريّتك الإنسانيّة، قبل أن تُذكّرك (ماذا أقول لمريم؟) بمدى حساسية الرّوح البشريّة، وقابليّتها للتبخّر بعد اشتعالٍ لا مُتوقّع. كلّ هذا في قالبٍ شهيّ يمتاز بموهبة فريدة في عرض الصّور التي قد تصطدم بمشاعر القارئ الخاصّة بصراحة مُهذّبة تخلو من الإسفاف أو الفجاجة.
ككلّ كتاب يستحقّ القراءة، من الصّعب أن تُدرك الجمال الكامن في هذه المجموعة ما لم تطّلع على نصوصها بنفسك، وتغوص في لذّة قراءتها بكلّ أحاسيسك، واثقًا بأنّها لن تأخذ من وقتك أكثر مما ستهبك إيّاه إلى الأبد، لتمتلئ بعد سطرها الأخير لهفة للاطّلاع على التّالي من إصدارات الكاتب ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق